ادارة المعلومات

خواطر جيولوجية… على مناكب جبل صبر الأشم حيث تحدثت الأرض وكتبت الصخور تاريخها.

بقلم/بشار الطيب*

إن الصخور الجرانيتية التي حُدد عمرها المطلق ضمن العصر الثلاثي في مناطق جبل صبر وما حوله من جرانيتات عبارة عن صفحات مفتوحة من كتاب الأرض، فسبحان خالقها العظيم. في مجاميع تلك الكتل الجرانيتية طبقات خضراء خفيفة تعكس تفاعلات قديمة في مكونات الأرض الضاربة في أعمار الصخور. عندما يتسلل الضباب بين التلال في الصباح الباكر، تشعر وكأنك تسمع أنغامًا ملائكية تحكي عن علاقة أزلية بين الأرض والسماء.

في ذلك اليوم، وبينما كنا ندرس الانهيارات الصخرية في محافظة تعز، توقفنا أمام قلعة القاهرة المهيبة، كانت إطلالة لا متناهية على مشهد آسر للب والوجدان. هناك، بدأت الأرض تكشف أسرارها، والصخور تحكي لسليمانها ماضي الأيام وفعل عوامل الليل والنهار. عثرنا على آثار قديمة محفورة في الصخور وكأن الأرض كانت تحمي أمانتها بوفاء لا يُضاهى. تعلمت أن الأرض، رغم قسوتها الظاهرة، هي الأم الحنون التي تحفظ التاريخ وتُعطي للحياة معنى.

في مكان آخر من الجبل الأشم صبر، رأينا بلورات الكوارتز المختبئة على استحياء بين ركام طاحونة الزمن التي عركت الصخوروأبلت مكوناتها. بدت كأنها كنوز تخفيها الأرض بحب، لكل جيولوجي يلقي نظره الثاقب. للوصول إليها كان علينا أن نواجه تحدياتها؛ فتات الصخور الحاد كالسكاكين كان يختبر صبرنا، لكنه بالمقابل منحنا درسًا ثمينًا عن قيمة المثابرة وكيف أن الجمال الحقيقي يُنتزع بجهدٍ وتضحية.

الصخر هنا لم يكن مجرد مكون جامد؛ بل كان كتابًا مفتوحًا مليئًا بالفلسفة وأسرار لا يدركها إلا من فطن لغة الصخور ورموزها الجيولوجية. علمني جبل صبر الأشم أن أعظم ما يمكن للصخر والمعدن أن يُقدمه ليس البناء أو الصناعة، بل دعمه للحياة نفسها. عندما يتحول الصخر إلى تربة خصبة، يمنح البذور القدرة على النمو بأسباب مودعة من خالقه، وعندما يلين ليُعطي الماء، يصبح هو جوهر الحياة.

هنا، أدركت حقاً العلاقة العميقة بين الأرض والإنسان والحياة. تعلمت أن من يرتبط بالأرض، من يزرعها، ويحميها، ويعيش من عطاياها، هو أشد الناس وفاءً لها وأعظمهم استعدادًا للتضحية، والأرض تحب من يحبها، ألم نقرأ قول حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما قال: أحدٌ جبل يحبنا ونحبه؟.

أيا صبر الأشم، يا رمز الجمال والمجد، أنتِ المدرسة التي تُعلّم أبناءك كيف يكونون جزءًا منك، كيف يصمدون كصخورك، وكيف يحافظون على عهدك. هنا، بين صخرك وترابك، تتشكل فلسفة المقاومة، ويتحول أبناؤك إلى مقاتلين يحملون إرثك، صامدين كأنهم كائنات من صخر متحور، لا ينكسرون أمام الأعداء.

وفي غربتي البعيدة عنكِ، ما زلت أشتاق أن أعانق تربتك وأتفيأ بظلال شجرك. لكنني، يا سيدي، صرت أقاتل لأجلك بطريقتي. أصنع لك طيورًا من الحديد، وأحمل شوقي لك في كلماتي التي أزرعها بذورًا للأجيال القادمة.

هذا الجبل الأشم (ملك الجبال الجنوبية)، له في كتابات الدكتور القدسي شوق وحنين، وبالرغم من رسالة الماجستير التي كتبها عنه، إلا أن في نفسه شيء لجبل صبر، الموقع، والصخور والمعادن والاقتصاد والسياحة.

هذا الجبل لنا، وهذه الأرض لنا، وهذا الحب الأبدي لك منا. سنعود يومًا، أو سنترك كلماتي تقصف الصمت وتعيد مجد الأرض التي علمتنا أن الحياة هي وفاء لأمانة الصخر والتراب.

 

#الجيولوجيا_فلسفة_وإبداع

#جمال_الطبيعة_والتاريخ

*مهندس جيولوجي في هيئة المساحة الجيولوجية والثروات المعدنية..

مع المهندس مطيع الصبيحي أثناء دراسات الانهيارات الصخرية في جبل صبر
المهندس صلاح باصره مدير مشروع الانهيارات الصخرية في قلعة القاهره
هدايا وزهور من جبل صبر، حيث كانت النساء عند طريق العودة يقدمن الهدايا للوافدين الجدد ترحيبًا وكرمًا.
خواطر جيولوجية…
على مناكب جبل صبر الأشم
حيث تحدثت الأرض وكتبت الصخور تاريخها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق
error: محتوى محمي